تتناول دينا مطر، الأكاديمية والباحثة الفلسطينية، في هذا المقال معنى «أرشفة غزة في الحاضر» بوصفه فعلًا معرفيًا ومقاومًا في قلب الإبادة الجارية بحق الفلسطينيين. تنطلق مطر من تجربتها الصحفية والأكاديمية، ومن مشاركتها في تحرير كتاب Archiving Gaza in the Present (أرشفة غزة في الحاضر) مع الباحثة فينيسيا بورتر، لتطرح سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن توثيق غزة بينما تتعرض حياتها وذاكرتها للتدمير المباشر وعلى الهواء؟ وكيف يتحول التوثيق من جهد أكاديمي تقليدي إلى ممارسة سياسية وأخلاقية تواجه محاولات المحو؟

 

توضح الكاتبة في المقال المنشور على موقع ميدل إيست آي أن الإبادة في غزة المستمرة منذ أكثر من عامين، والمدعومة من قوى إمبريالية كبرى، لا تقتصر على القتل والتدمير المادي، بل تشمل أشكالًا متعددة من الإبادة، أبرزها تدمير الثقافة والذاكرة، عبر استهداف المؤسسات الثقافية، والمواقع التاريخية، وحاملي المعرفة ومنتجيها.

 

المحو الاستعماري وصناعة الصمت

 

تؤكد مطر أن محو التاريخ الفلسطيني ليس ممارسة طارئة، بل يشكّل ركيزة أساسية في المشروع الاستيطاني الصهيوني، الذي يسعى إلى اقتلاع الفلسطينيين من المكان والذاكرة معًا. تفرض هذه السياسات تحديات عميقة على الفنانين والباحثين والمنتجين الثقافيين، الذين يجدون أنفسهم مطالبين بابتكار لغة جديدة قادرة على التعبير عن العيش داخل إبادة تُبث مباشرة عبر الشاشات، وفي ظل إنكار رسمي إسرائيلي لوجودها أصلًا.

 

وتوضح الكاتبة أن الفلسطينيين، وخاصة في الغرب، يواجهون رقابة معرفية مضاعفة، حيث تُقيَّم رواياتهم من خلال عدسات استعمارية وعنصرية تشكك في أهليتهم لسرد قصصهم بأنفسهم. في هذا السياق، لا تصبح الأرشفة مجرد حفظ للماضي، بل فعل تحدٍ للحاضر، ورفض لهيمنة مؤسسات المعرفة الاستعمارية التي تطرح باستمرار سؤال «من يملك حق الأرشفة؟» بدل مساءلة العنف الذي يجعل الأرشفة ضرورة وجودية.

 

الأرشفة كفعل رعاية ومقاومة

 

ترى مطر أن الأرشفة، كما يقدمها الكتاب، ممارسة جماعية قائمة على الرعاية والاهتمام، وليست مجرد تجميع للمواد. تسهم الشهادات الشفوية، والأفلام، والأعمال الفنية، والملصقات، والنصب التذكارية، في بناء «أرشيف داخل الأرشيف»، أو تاريخ داخل تواريخ، يواجه الصمت العالمي حيال تدمير التراث الثقافي في غزة.

 

تربط الكاتبة هذه الممارسة بفكر فرانز فانون، الذي رأى في الأرشفة أفقًا للأمل والمثابرة، لا مجرد تسجيل للمعاناة. تشرح أن الفن والتخييل يصبحان أدوات مركزية لإعادة جعل التجربة الفلسطينية مرئية ومفهومة، بعيدًا عن اختزالها في أرقام أو مشاهد دمار مجردة. هكذا تتحول الأرشفة إلى ممارسة مناهضة للاستعمار، تجمع بين السرد والخيال والإبداع في مواجهة الإلغاء المتعمّد.

 

الذاكرة في مواجهة الإبادة الرقمية

 

تتناول مطر أيضًا البعد التكنولوجي للإبادة، حيث تفرض إسرائيل سيطرتها على الفضاءات الاتصالية الفلسطينية، عبر قطع الإنترنت، واستهداف الصحفيين والباحثين، وممارسة الرقابة الجماعية. توضّح أن التقنيات «الناعمة» المزعومة تعيد إنتاج عنصريات قديمة، وتخلق لا مساواة معرفية جديدة، تجعل الأرشفة فعلًا تحرريًا في مواجهة «الإبادة المعرفية».

 

تستدعي الكاتبة نص من كتاب محمود درويش ذاكرة للنسيان، لتبرز الصراع الدائم بين التمسك بالذاكرة كأداة مقاومة، والحاجة إلى نسيان الصدمة من أجل البقاء. في التجربة الفلسطينية، تتحول الذاكرة إلى عبء وملاذ في آن واحد، لكنها تظل شرطًا أساسيًا للحفاظ على الهوية في المنفى وتحت الاحتلال.

 

تختتم مطر بالتأكيد أن الدافع إلى الأرشفة لا ينبع فقط من الرد على العنف أو الصمت، بل من جذور أعمق تتجاوز الإطار الذي يفرضه الاستعمار. الأرشفة، في هذا المعنى، ليست رد فعل، بل فعل سيادي يمنح الفلسطينيين قدرة على تعريف أنفسهم وتاريخهم ومستقبلهم. في أرشفة غزة اليوم، تصر الذاكرة الفلسطينية على البقاء، لا بوصفها ماضيًا جامدًا، بل كحياة تقاوم المحو.

 

https://www.middleeasteye.net/opinion/archiving-gaza-present-quest-preserve-palestinian-memory